تاريخ النشر : 9 September 2010 - 2:17pm
تقرير: شعلان شريف- إذاعة هولندا العالمية/ في مدينة "كيب تاون" في جنوب إفريقيا ينتصب مزار صغير للشيخ أبو بكر أفندي. رجل دين كردي، من مدينة الموصل العراقية، أرسلته الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر لإمامة وتعليم المسلمين هناك. اندمج الشيخ الموصلي بمجتمع المسلمين في جنوب إفريقيا ومكث هناك حتى وفاته.
لم يكن مسلمو جنوب إفريقيا، القادم معظمهم من جزيرة جاوة، يتحدثون العربية أو التركية. لذلك تعلم أبو بكر أفندي اللغة الأفريقانية، وهي اللغة الهولندية التي جلبها إلى هناك المستوطنون البيض الهولنديون. كان أبو بكر أفندي يعطي دروسه الدينية بتلك اللغة الغريبة عليه، لمسلمين آسيويي الجذور، لم تكن تلك لغتهم الأم.
تحفة نادرة
ألف أبو بكر أفندي عدة كتب أهمها كتابه "بيان الدين" الذي يتضمن دروساً في الشريعة الإسلامية، باللغة الأفريقانية، ولكن بحروف عربية. فقد تعلم الحديث بالأفريقانية، لكنه لم يتعلم الكتابة بالأبجدية اللاتينية. وتبدو هذه الكتب الآن تحفة نادرة، تمتلك قيمة تاريخية وعلمية خاصة، كما يقول المستشرق البلجيكي زيافير لوفين، الأستاذ في جامعة بروكسل الحرة، المختص بتاريخ الدولة العثمانية في أفريقيا، في حوار أجرته معه إذاعة هولندا العالمية في مكتبه في بروكسل.
لم يكن بكر أفندي هو الوحيد الذي توجه من اسطنبول إلى جنوب إفريقيا لتدريس التعاليم الإسلامية للمسلمين هناك. فقد كان بصحبته عالم آخر من المقربين إلى الباب العالي وهو عمر لطفي. لكن الأخير لم يستقر به المقام في جنوب إفريقيا، وعاد لاحقا إلى اسطنبول ليؤلف كتاباً نادراً عن رحلاته الإفريقية. يعكف المستشرق زيافير لوفين (Xavier Luffin) حالياً على ترجمة هذا الكتاب إلى الفرنسية، من لغته الأصلية التركية العثمانية، المكتوبة بالحروف العربية، وسيصدر في أكتوبر- تشرين الأول.
عبيد ومنفيون
يخبرنا المستشرق البلجيكي أن مسلمي جنوب إفريقيا هم في معظمهم ينحدرون أصلاً من جزر الملاوي ومن جزيرة جاوة في إندونيسيا، التي كانت آنذاك مستعمرة هولندية. وقد جلب المستوطنون الهولنديون هؤلاء الملاويين والجاويين المسلمين للعمل في المزارع في جنوب إفريقيا، كما إن الكثير من المسلمين الذين يتمردون على السيطرة الهولندية، كان يتم نفيهم إلى جنوب إفريقيا. وحسب لوفين فقد كان الفلاحون المسلمون يعاملون كالعبيد من قبل المستوطنين البيض. ولم يكونوا يتمتعون بأي حقوق ثقافية أو دينية.
تغير الأمر، كما يقول المستشرق لوفين، حين انتقلت السيادة على منطقة كيب تاون من الهولنديين إلى الإنجليز في منتصف القرن التاسع عشر، بعد معارك طويلة، ساعدهم فيها بعض أفراد الجالية المسلمة. أراد الإنجليز أن يظهروا بصورة مختلفة عن الهولنديين، فمنحوا الفلاحين الجاويين والملاويين بعض الحقوق، وسمحوا لهم ببناء أول مسجد في جنوب إفريقيا، وطلبوا منهم أن يوجهوا رسالة إلى العرش البريطاني تتضمن مطالبهم. كان في مقدمة مطالب المسلمين استقدام رجل دين مسلم يعلمهم أصول ديانتهم.
الباب العالي
يضيف المستشرق موضحاً أن المعتمد البريطاني في كيب تاون أرسل تلك الطلبات إلى حكومته في لندن، وهي بدورها عرضت الأمر على سفير الدولة العثمانية لدى المملكة المتحدة. وسارع السفير العثماني بإرسال الطلب إلى الباب العالي. جمع السلطان العثماني حينها عددا من العلماء، وطرح عليهم الفكرة، ثم اختار اثنين من علماء الدولة ليرسلهم في بعثة إلى جنوب إفريقيا. وقع اختياره على العالم والدبلوماسي عمر لطفي، ليقود البعثة، وأرفق معه الشيخ أبو بكر أفندي. ويبدو أن اختيار الأخير كان بسبب مذهبه الشافعي، الذي يتبعه المسلمون الجاويون والملاويون، وهو أيضاً مذهب غالبية الأكراد في الدولة العثمانية، بينما يتبع أغلب الأتراك مذهب الدولة الرسمي وهو المذهب الحنفي.
قدسية الحرف العربي
ولكن لماذا اختار أبو بكر أفندي أن يؤلف كتابه باللغة الأفريقانية، لغة المستوطنين البيض غير المسلمين، ولماذا حافظ على الحرف العربي في كتابة هذه اللغة التي تكتب أصلا بالحروف اللاتينية؟ حول هذه النقطة يوضح المستشرق جافيير لوتفن أن المسلمين في جنوب أفريقيا كانوا يتحدثون الجاوية أو الملاوية، وهي لغات كانت تـُكتب بالحرف العربي.
وبسبب تعدد اللغات المحلية للمسلمين، فإنهم كانوا يتحدثون في ما بينهم باللغة الأفريقانية، لغة أسيادهم البيض. وقد اضطر أبو بكر أفندي لتعلم هذه اللغة أيضا لكي يستطيع التفاهم مع المسلمين. لكن لا أبو بكر أفندي، ولا تلامذته ذوي الأصول الآسيوية كانوا قد تعلموا القراءة والكتابة بتلك اللغة الأوربية، بينما كانوا جميعاً على معرفة بالحروف العربية، وهي الحروف المستخدمة في الدولة العثمانية، وكذلك في إندونيسيا وجزر الملاوي آنذاك. ولا يستبعد المستشرق لوفين أيضاً، أن القدسية التي يتمتع بها الحرف العربي لدى المسلمين قد جعلت منه الخيار الطبيعي لكتابة الدروس الدينية.
فكّ الطلاسم
وتحتاج النصوص التي يتضمنها كتاب "بيان الدين" إلى شيء من الجهد حتى لمن يعرف الهولندية، لفك طلاسمها، وإرجاع المفردات المكتوبة بالحروف العربية إلى أصلها الهولندي (الأفريقاني). لكن إذا تمكنت من ذلك، فلا بد أن تشعر بالإعجاب لقدرات هذا الشيخ القادم من شمال العراق والذي تعلم في عمر متأخر لغة بعيدة كل البعد عن ثقافته العربية والتركية التقليدية، واستطاع أن يطوع الحروف العربية لكتابتها، وتأليف الكتب بها: فحين يستشهد مثلاً بالنص القرآني "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا بوجوهكم." فإنه يلحق به ترجمة لمضمونه كالتالي: "أو دي ميسي فت هت ايمان فنير جويل فل اوبستان أومتماك صلاة جويل موت فاس سين يلي خسيخ." وبعد قليل من الجهد نصل إلى الأصل الهولندي لهذه الكلمات:
"U die mensen wat (van?) het iman wanneer jullie wil opstaan om te maken salat, jullie moet was (wassen) jullie gezicht."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق