الخميس، 20 يناير 2011

العربية ليست لغة كلاسيكية

صلاح بوسريف
2011-01-19

لا يمكن لمن يدافع عن لغة ما أن يستعمل في مقابلها لغة أخرى باعتبارها ميتةً، أو لم تعد صالحةً للعلم ولا للمعرفة، أي باعتبارها لغة 'كلاسيكيةً'، بهذا المعنى الذي يُخْفِي في طياته الكثير من التَّنَدُّر والازدراء.
في هذه الصفة التي تُطْلَق على العربية اليوم، وهي ترجمة للعبارة الفرنسية Larabe claique ما يشي، طبعاً، بالموقف من العربية، عند مَنْ يحرصون على استعمال هذه العبارة، أو هذه الصفة، سواء أكانوا من العرب أم من غيرهم.
من يعرف تاريخ العربية، يُدْرِك جيداً، أن عربية اليوم ليست هي عربية الأمس، وأنَّ العربية مرَّت بأطوار كثيرة، نَقَلَتْها من ' لغة نَمَِطيةٍ '، كما يريد لها بعض من ينتسبون لـ 'اللسانيات النسبية'، أو الذين يربطونها بالنص الديني، باعتبارها لغة القرآن، أي تلك اللغة التي لا تقبل التبديل، أو الإضافة، ما يعني أنها ' كلام الله '.
لم تكن العربية لغةً ميتةً، كما أنها ليست ' كلام الله '. فهي لغة عربية، بانتسابها للناطقين بها، وهـي لغة الشِّعر الجاهلـي، التـي بها ' كتب ' الشُّعراء العرب ممن كانوا وثنيين، قبل ظهور الإسلام، أو مَنْ كانوا مسيحيين، أو انتسبوا لمعتقدات أخرى مما كان معروفاً في هذه المرحلة من تاريخ الجزيرة العربية. فالقرآن نزل بالعربية، وَعْياً منه بضرورة التواصل مع مَنْ تَوَجَّهَت إليهم الدعوة، فهو لم يكن ممكناً أن ينزل عليهم بلغة أخرى، ما دفع إلى التأكيد أنه نزل بلسانٍ عربي، تحقيقاً لشرط التبليغ، أو تسهيل وصول الرسالة لمن ذهبت إليهم. فلغة القرآن، هي أسلوب من أساليب العربية، وهي جاءت كَتَحَدٍّ لعربية الشِّعر، أو للعربية السائدة، آنذاك، أو هي، بالأحرى، جاءت كتعبير عن هذا التنوع الذي تميزت به العربية، وما تختزنه في نفسها من إمكاناتٍ للابتداع والإضافة.
فإذا كان القرآن، باعتباره ثورة على القيم السائدة فـي ' المجتمع العربي '، بما حَمَله من تَصَوُّراتٍ جديدة، أكَّد عليها هو نفسه، قياساً بمعتقدات ' الآباء '، ورفضه لسيادة التقليد والتبعية، كما جاء في الآيات؛ ' قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آباءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ' [الشعراء، 74]، ' بَلْ نَتَّبِع مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا '[لقمان، 21]، ' حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ' [المائدة، 104]، جاء لبداية عهد جديد، فكيف يمكنه أن يرفض التجديد والابتداع والإضافة، أو يعمل على خلق آباء جدداً، لاخَلَفَ لهم..
فالقرآن، لغة، هو أحد تعبيراتِ العربيةِ، وهو أحد إمكاناتها الكبيرة في ابتداع اللغة، وفي تنويع أساليبها، كما أنه، كان، بإقدامه على استعمال تعبيراتٍ غير عربية في خطابه، يُشِير إلى ذلك التَّلاقُح الذي لا يمكن لأي لغة، كيفما كانت أن تَنْجُوَ منه، باعتبار اللغات كائنات حية، ما دامت تجري على ألسنة الناطقين بها، أو تُسْتَعْمَل في كتاباتهم، وما دامت تقبل اللقاء بغيرها من اللُّغات، بحكم كثير من العلائق، التي لم تعد تكفي المَعْرِفةُ وحدها، في إحداثها، خصوصاً في وقتنا الراهن، حيث أصبحت إمكانات التواصل والإعلام أكثر شساعةً مما كانت عليه قبل عشر سنواتٍ، دون أن نعود إلى زمن الرسول.
الذين يحرصون على اعتبار العربية لغة كلاسيكية، وهم، طبعاً، يتحدثون عن العربية اليوم، وليس عن عربية القواميس القديمة، وتحديداً ' لسان العرب ' الذي اكتفى فيه ابن منظور بعربية ما قبل التدوين، لا بما بعدها، يفعلون نفس ما يفعله الذين يخرجون بالعربية من دُنَيَوِيَتِها، لِيُلْبِسُوها لِبَاسَ السَّمَاء. لا فَرْقَ، خصوصاً حين تكون صفة كلاسيكي تعني ما ثَبُتَ على صورة ما، وأصبح نمطياً، لا يقبل الابتداع و التجديد أو الإضافة، أي أن قواعده وقوانينه راسخة ولا تقبل التبديل.
يقول أحد هؤلاء ' أما العربية فقد فقدت الانتساب إلى قومها مذ اختارها الله عز وجل لكلامه في القرآن الكريم، وزاد رسوله الأمين (ص) فعبَّر بها عن سُنَّتِه المُوَجَّهَة إلى المسلمين فصارت بذلك لسان حضارة القرآن ' [محمد الأوراغي، لسان حضارة القرآن،ص96].
من لغةٍ تَخََشَّبَتْ في الأرض، إلى لغةٍ لَبِسَت أَزَلَ السَّماء. في الحالتين، فهي لن تكون سوى لغةٍ انتهت، وأصبحت غير قابلة للاستعمال إلاَّ وفق قوانينها الثابتة المستقرة، أو ما يُسمِّيه صاحب ' لسان حضارة القرآن '، بـ ' القوانين الزجرية ' التي ينبغي أن نضرب بها على يَدِ كل مَنْ حاول خلق طريقة في التعبير، أو أسلوب في الكتابة، هو غير أسلوب القرآن، أو ما يُسَمِّيه بـ ' كلام الله '، هذا التعبير الذي سبق لميرلو بونتي أن استعمله في سياق مغاير.
عرفت العربية لحظات وَهَنٍ وضعف، كما عرفت الثقافة العربية، انحساراً، كانت له انعكاساتُه على اللغة، وعلى الحضارة، ما جعل فكرة ' النهضة '، أو ' اليقظة ' أو ' البعث والإحياء '، تظهر، باعتبارها نوعاً من الوعي بالمأزق الذي صارت عليه هذه الثقافة، وما كانت تحمله من قيم، وهو، على أي، وعي شرع في إعادة قراءة ماضيه، و البحث في أسباب هذا الانحسار، وهذا ' التخلف ' الذي طال كل أسباب الوجود العربي.
ففي مقابل هذا الوَهَن، في اللغة، شعرياً، وهو ما حدث مع مختلف السلفيات التي ظهرت في زمن ' النهضة '، عمل الإحيائيون على النظر إلى الماضي، باعتباره مُنْقِداً، أو مَخْرَجاً من هذا المأزق، أي باعتبار الماضي هو الحل لمشكلات الحاضر. فبدل أن تذهب هذه السلفيات إلى الأمام، عادت إلى الوراء الذي بدا لها مثالاً، وقُدْوَةً، كونه كان فترة قوة وازدهار وغَلَبَة، أوهي الفترة التي كانت فيها اللغة عربيةً صميمةً.
يعرف الباحث في تاريخ العربية، أنَّ هذه اللغة، حتى في لحظات الجمع والتقعيد، لم تخلُ من التَّلاقُحات التي كانت تأتيها، إما من نفسها، أي من مجموع اللهجات التي كانت محايثةً لها، أو من خارجها، بفعل العلاقات التي ربطت العرب بغيرهم من الأمم. ليس هذا فقط، بل إنَّ ما سجله النقاد على الشُّعراء، في الجاهلية كما في المراحل التالية عليها، من مؤخذات تتعلق بـ ' أغلاط ' الشعراء، وما شاب شعرهم من مشكلات لغويةٍ، كان أحد مظاهر الصراع الذي كانت اللغة تعمل من خلاله، على كَسْر المعيار، وتأكيد قدرتها على الحياة، كون اللغة، كائناً حياً، وليست مجرد أداة جامدة لا حياةَ فيها.
ما يعني أنَّ الحديث عن العربية باعتبارها لغةً واحدة، هي نفسها عبر مختلف مراحل تاريخها، لم يحدث فيها أي تغيير وتبديل، في ألفاظها وتراكيبها، وفي تشبيهاتها ومجازاتها، هو محض هُرَاء، من جهتين:
1. من جهة مَنْ نظروا إليها بأنها لغة مقدَّسَةً راسخةً، لا تقبل التبديل.
2. ومن جهة مَنْ ينظرون إليها بأنها انتهت وانكفأت على نفسها، في مقابل غيرها من اللغات أو اللهجات.
فالعربية، التي بها يكتب هؤلاء، أنفسهم، ليست هي لغة القرآن، ولا لغة ابن منظور. بدليل أن الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، التي تنشر كتاباتهم، تستعمل العربية، كما يستعملونها هُم، ليس باعتبارها لغة كلاسيكية، أي اللغة التي بها كتب فارس الشدياق أو رفاعة الطهطاوي، إبان فترة ' النهضة '، أو لغة الكواكبي وجمال الدين الأفغاني، كما أنها ليست لغة السَّماء، أو لغة لله. عربية اليوم هي انعكاس لمجموع التحوُّلات التي تجري على الأرض. صحيح أنَّ ثمة مشكلات في علاقة العربية بالمفاهيم و التصورات العلمية الحديثة، وما يعتري ترجمة كثير من المفاهيم العلمية وغيرها مما له صلة بمجالات المعرفة المختلفة، خصوصاً ما يتعلق منها بشبكة التقانة الرقمية الحديثة، وكيفية نقل العربية من وضع التلفظ التقليدي المرتبط بالكتابة الورقية، أو وسائل الطباعة التقليدية، إلى هذه الفضاءات الرقمية الواسعة، بأسهل الطُّرُق وأسرعها. وهي، طبعاً، من المهام التي لا يمكن أن نُلقيها على عاتق الأفراد، لأنها مهام لا يمكن أن تنجزها إلاَّ الدول، بما لها من إمكانات، ومؤسساتٍ، خصوصاً فـي مجال البحث العلمي، وبما يمكن أن تَسُنَّهُ،
هذه الدول، من قوانين، وأن تضعه من إجراءات تتيح للباحثين، أو العاملين في هذا المجال أن يبتدعوا الصيغ والمقترحات الممكنة لوضع العربية في سياقها العلمي و المعرفي الحديثين.
ما يجري اليوم من ندوات ولقاءاتٍ، وما يُعقد من جلساتٍ حول العربية، في مجموع الوطن العربي، بما فيه ما يجري في المغرب، هو، ربما، نوع من اليقظة المتأخِّرَة، لأنها، بالأسف، لم تتم من خلال وعي الحاجة إلى تطوير اللغة وتحديث آليات عملها، بقدر ما جاءت كردٍّ على ما تتعرض له العربية من هجماتٍ متتالية، ومن أكثر من طرف وجهةٍ. ليس بهذا المعنى يمكن أن تقوم هذه الجهات، بدورها في قيادة العربية نحو المستقبل، فهي بعكس ذلك تزيد الطين بَلَّةً، كونها ما زالت تعمل خارج سياق ما يجري في واقعنا اللغوي، فهؤلاء يجتمعون للحديث عن لغةٍ، هي اللغة التي دأب أصحاب ' حضارة القرآن ' على اعتبارها اللغة البديلة، كما دأب غيرهم، على اعتبارها لغة كلاسيكية، بنوع من التعميم، أو بنوع من التعتيم، بالأحرى.
لا ينظر هؤلاء إلى لغة الإبداع، وما يجري من صلات بين العربية والعاميات العربية، وبين العربية وغيرها من مقترحات الترجمة أو التكييف اللغوي، الذي تقترحه كتابات مبدعيـن ومفكرين عرباً، والنظر
إلى اللغة، في سياقها التداولي. كل هذا غائب عن هؤلاء، وما يشغلهم هو المعيار والنمط، وهذا أحد أسباب اعتبار العربية لغة كلاسيكية، عند
مَنْ يبحثون عن حُجَّةٍ لإثبات صحة مواقفهم.
ليست العربية لغة مقدسة، ولا لغة كلاسيكية، فهي لغة تعيش واقعين؛ واقع المؤسسة التي تعمل على حصرها في المعيار والنمط، وتعمل على ترويجها وفق هذا المعنى. وواقع الابتداع الذي تعكسه بوضوح لغة الشِّعر والرواية و الفكر، كما تعكسه تلك الانزياحات التي تخرج بالعربية من بلاغة الماضي، إلى بلاغة الحاضر، الذي ليس هو الماضي بالضرورة.
فصرخة جبران الشهيرة، ' لكم لغتكم ولي لغتي '، حين عِيبَ عليه أنَّ عربيته ليست سليمةً، في مثل استعماله لكلمة ' تَحَمَّم ' بدل ' اسْتَحَمَّ '، كانت تعبيراً عن هذه المسافة التي تفصل بين هؤلاء، وبين مَنْ يعملون على العودة بالعربية إلى زمن التدوين والتقعيد، الذي أفضى إلى ما نحن فيه اليوم من نقاش حول جدوى، أولا جدوى العربية، في مختلف مجالات المعرفة، ناهيك عن حاجتنا لها في حياتنا اليومية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق