الأحد، 9 يناير 2011

أسباب أخرى للدفاع عن اللغة العربية...ليس هناك لغة أفضل من أخرى والعامية ليست العدو الأول

غالباً ما يتم الدفاع عن اللغة العربية وضرورة المحافظة عليها والتمكين لها مشفوعاً بقرائن كثيرة تدلّ على تميّز هذه اللغة وفرادتها وتفوقها على اللغات الأخرى.
ولكن لو لم تكن اللغة العربية بتلك المزايا فهل نفتقد مبرر الدفاع عنها؟ وهل حال اللغة العربية سيكون بخير حينما يتقرر لها يوماً عالمياً للاحتفاء بها؟ ولماذا نضطر لوصف لغتنا بأنها جميلة وقادرة وواسعة إلى آخر تلك الاستخدامات، ونسبغ عليها صفات الكمال وكأننا نبحث عن مبررات لدفاعنا عنها؟!

إن اللغة هي ضرورة بدهيّة، وهي أهم ما يميز أمة من الأمم في ماضيها وحاضرها وهي العلاقة الفارقة لأي قومية أو جنسية، ولذلك فإن دفاع القوميات والشعوب عن لغاتهم لا يحتاج إلى مسببات ولا إلى حجج وبراهين، ولا إلى مواصفات معينة تبرر أسباب الدفاع، فلم يعرف التاريخ أمة احتجت على لغتها أو طالبت بتغييرها أو قصّرت في الدفاع عنها وعن أسباب وجودها، فاللغة، بالبديهة، هي الرابط الأساسي بين كل الناطقين بها وهي ليست بحاجة لأن تكون جميلة أو رشيقة أو متميزة، أو حتى متعددة الألفاظ، والكلمات طالما كانت تفي باحتياجات مستخدمها، وربّما كانت تلك الصفات بحاجة إلى إعادة النظر قبل الشروع في تقديم القراءات المختلفة لأهمية اللغات بما فيها اللغة العربية..
البحث الموضوعي العلمي في قضية اللغات لا بد أن يصل في نتائجه إلى نفي تفوق لغة على أخرى من حيث الأهمية أو البنى الحقيقية. فقضية التفوق اللغوي وخاصة من حيث جمال اللغة ومقدرتها على التعبير تستند دائماً إلى بعد عاطفي لا إلى حقيقة علمية، ومن هنا نستطيع الحض على الدفاع عن لغتنا لسبب أساسي وجوهري وهو أنها «لغتنا».
تماماً كما ندافع عن أرضنا لأنها «أرضنا» بصرف النظر عن جمال تلك الأرض أو حجمها أو موقعها الجغرافي..
بات الدفاع عن اللغة العربية مجال عمل الكثيرين، بل بات مجال عمل مستقل لبعض الهيئات واللجان المتخصصة غير أنه حتى اليوم لا يستطيع التفاعل مع الواقع، ومع الشارع المعني أيضاً بلغته، وربما يكمن السبب الرئيسي في التوجّه الذي تتخذه تلك اللجان والهيئات وهو التعامل مع لغة الناس، لغة الواقع، لغة الشارع، على أنها العدو الأول للّغة الأم، وهنا يبرز التناقض الأساسي في أشكال الدفاع عن اللغة التي تنقسم انقساماً حاداً إلى فصيحة وعامية حيث تتركّز جهود المدافعين على ضرورة تدمير اللهجة العامية ومحاولة إلغائها واستبدالها بالفصحى.. وقد أثبتت التجارب أن ذلك أمر مستحيل، فالعامية هي تطور طبيعي للّغة ولا نستطيع وقف زحفها لا بقرار ولا بحملات مضادة ولا بأي طريقة كانت والدليل على ذلك هو إخفاق كل المحاولات التي سعت إلى سحب العامية من سوق التداول، وربما كل المحاولات التي هي إحدى مزايا اللغة القادرة على الاحتفاظ ببنية رسمية أساسية وتفريغ بنى لغوية أخرى تدور في فلكها دون أن تستعمل نظامها بشكل كامل وذلك لا يسيء إلى اللغة الأصل تماماً كما لا يسيء البناء إلى الأرض حيث تبقى أرضاً وإن أزلنا البناء، ولذلك فإن الحملات المضادة للعامية لن تكون حلاً للحفاظ على اللغة العربية، بل ربما كان لها بعدها السلبي في محاولة تدمير الجانب الحي للّغة الأم، وفي الواقع، فإن كل اللغات تفرز لهداتها العامية بل وتعتمد تلك اللهجات وتحتويها وتضيفها إلى قاموسها لإدراكها أن المنشأ الأساسي للغة هو مستخدمها وليس قواعدها أو بناها، فاستخدام اللغة سابق على التقنين لها، وفي مجال اللغة تحديداً لا يمكن التعامل مع القواعد على أنها مغلقة ونهائية طالما كان ثمة إمكانية للإضافة إلى القاموس اللغوي أو الحذف منه.
تجمع النظريات على أن اللغة ذات منشأ « اعتباطي» وتميل أخرى إلى نظرية المنشأ التواضعي، وربمّا لو دققنا النظر والتحليل نستطيع الجمع بين النظريتين/ المنشأين، فقد تطورت اللغة في رحلة تكوّنها الأولى من الإشارة، إلى الصوتيات المجردة إلى مجموعة الأصوات التي أنشأت كلمات ثم جملاً وبعد ذلك تم تثبيتها بحكم التكرار واعتمادها والتقنين لها ولكنها تركت هامشاً مستمراً لانحرافات اللسان التي لا تتعارض مع البنى الأساسية التي ترتكز إليها لتتعامل معها على أنها إضافات تصب في مصلحة توسيع المعجم اللغوي، فإقفال أي معجم يعني بداهة إغلاق الباب أمام حركة التطور، وإذا اتفقنا على البعد الاعتباطي/ التوافقي فبإمكاننا كسر بعض جوانب القداسة غير المبررة في نظرتنا إلى اللغة، ليس من أجل كسر القداسة، بل من أجل توسيع هوامش الحركة وفتح الأفق بشكل أكثر شمولية إلى تلك اللغة.
إن أسهل الطرق في الدفاع هو إيجاد عدد ضعيف وتضخيم تأثيره، أو المباهاة بالكائن الذي ندافع عنه، فأن نسلم بأن اللغة العربية أفضل من غيرها يشير إلى نوع من التعصّب ولا يخدم أهدافنا تماماً كأن نقول إن الرجل العربي أفضل من الإنكليزي أو الألماني، فكل اللغات لم تترك مسميات بلا أسماء، ولا ينقصها أفعال أو كلمات، ولا ينقصها أيضاً أشكال الاستخدام الأدبي، ربما كانت ميزة لغتنا أنها وظفت في الأدب كثيراً بحكم طبيعة الشعب العربي التاريخية وميله إلى التعبير الأدبي، ازدهار الشعر في فترة تاريخية معينة الأمر الذي زاد من قضية الاشتغال على اللغة، ولكن الشعوب الأخرى أيضاً لم تقصّر بشأن لغتها سواء في الخطاب الأدبي وجمالياته أم في الأساليب العلمية.
إن الدفاع عن اللغة - أي لغة- لا يمكن أن يتم من خلال إجلال مقدارها ومقارنتها باللغات الأخرى، ولا بالتقليل من شأن اللغات الأخرى أمامها ولا بمحاربة الاستخدامات اللغوية سواء في الكلمات أم التركيب، ولا في محاربة العامية ومحاولة الانقضاض عليها وإنما في تكثيف استعمالها واستخدامها بحيث تبدو محاولات التمكين لها غير مقصودة ولا ملموسة، وبحيث يتشربها العربي دون تنبيهه باستمرار إليها، وكذلك بالتعامل معها على أنها هوية وجامع ومرجعية لا يمكن الاستغناء عنها، أو كذلك بالانتباه الدائم إلى محاولات التأثير في بينتها الأساسية عبر تداخلها باللغات الأخرى.
والأهم من ذلك كله إيجاد الطرق والوسائل التي من شأنها تخزين قواعد اللغة في الذاكرة العربية تماماً كما تختزن تلك الذاكرة تلقائياً قواعد العامية، وليس بتدريسها كنسق مستقل يمكن حفظه دون استخدامه.


المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق