أحمد نوفل - ما علينا في طلب نهضة قومنا وتحررهم وترقيهم ووحدتهم.. ما علينا في ذلك من حرج ولا علينا من سبيل. فالعصبية شيء، وإنهاض أجزاء الأمة بدءاً من قومك وعشيرتك الأقربين، شيء آخر.
البدء بالأقربين، هو الأقرب إلى منهج الدين. وهكذا بدأ النبي الأمين. وهو سيد العالميين من دعاة رب العالمين، ومن الأنبياء والمرسلين. فلما استقرت دعوته في قومه صلى الله عليه وسلم، ودخل الناس (أي العرب كأنهم هم الناس) في دين الله أفواجاً، طفق بعد ذلك يخاطب العالم ويرسل الرسائل إلى الزعماء والملوك.
أبين هذا لأنه يدور في وهم بعض المتدينين أن التدين يناقض شعورك نحو أمتك وقومك وشعبك!
فقد وردت كلمة "قوم" في القرآن (206) مرات. وكلمة "يا قوم" (47) مرة. وكلمة "قوماً" (40) مرة. و"قومك" (11) مرة وباقي مشتقات قوم ومنها "قومه" (80) مرة أي ما مجموعه: 384 مرة.
فإلى القاموس بعد المعجم المفهرس لألفاظ القرآن.
الاستعراب:
قال في المعجم الوسيط: "واستعرب صار دخيلاً في العرب وجعل نفسه منهم."
قلت: إن أعداءنا المجرمين الصهاينة أعطوا كلمة الاستعراب والمستعربين مفهوماً سيئاً سلبياً منفراً. لأنهم يستخدمون هؤلاء المجرمين منهم، يستخدمونهم في مطاردة شبابنا، أو نشطاء الانتفاضة، أو كل مطلوب لهم. وهم في العادة كما هو معلوم من اليهود الشرقيين، أي اليهود من أصول عربية، وبعض الخونة من العرب.
ولكن "للاستعراب" مفهوماً آخر ليس يحمل الظلال السوداء التي حمّلها المجرمون لهذا المصطلح. وحرب اللغة بيننا وبينهم شديدة.
فهناك فريق من الدارسين الإسبان هم الذين يحبذون أن يتسموا بهذا الاسم.. ولا يحبذون الاسم الدارج المشتهر لأمثالهم من الدارسين، وهو اسم المستشرقين.
قال الأستاذ محمد عبد الرحمن القاضي في كتابه عن "ميغيل آسين بلاثيوس" ت1944 رائد الاستعراب الإسباني المعاصر، قال القاضي: "يرفض الكثير من الإسبان المهتمين بالدراسات العربية والإسلامية نعتهم بالمستشرقين. ويفضلون بدلها الاستعراب والمستعربين Arabistas نظراً لأنهم كلهم نذروا أنفسهم وحياتهم لدراسة اللغة العربية وآدابها وحضارة المسلمين وعلومهم في شبه الجزيرة الإيبيرية بصفة خاصة، دون أن يهتموا بلغات شرقية أخرى كالفارسية والتركية والأوردية وغيرها. ويلح المستعرب "بيدرو مارتينث" على استعمال كلمة "الاستعراب" Arabista لأن الدراسات التي بدأت في إسبانيا وازدهرت منذ وقت طويل كانت الدراسات العربية..
ومن هنا "يجب التمييز بين المستعربين والمستشرقين في إسبانيا، فالمستعربون هم الذين يهتمون بالدراسات العربية الإسلامية وبخاصة الأندلسية منها، والمستشرقون هم من يهتمون بقضايا الشرق على العموم وبخاصة قضايا الشرق الأقصى.
وإن نظرنا للتاريخ فإننا نجد أن الاستعراب استعمال قديم. استعمله "ابن القرية" وهو من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، وقد قال لما سأله الحجاج عن أهل البحرين: "نبط استعربوا" قال: فأهل عُمان؟ قال: "عرب استنبطوا".
أما في الأندلس فقد أطلقت كلمة المستعربة أو المستعربين على العناصر المسيحية التي استعربت في لغتها وعاداتها، ولكنها بقيت على دينها محتفظة ببعض تراثها اللغوي والحضاري، وقد حفظت لهم الدولة الإسلامية حرية العقيدة..
وينقل د.سيمون الحايك عن القس Alvaro حزنه على أحوال المسيحيين إبان الحكم الإسلامي فيقول: "إن الشباب المسيحي لا يجد اللذة والمتعة الروحية إلا في قراءة الكتب العربية وآدابها، فينفقون الأموال الطائلة على شراء هذه الكتب وينادون على رؤوس الأشهاد: أن لا آداب توازي الآداب العربية. أما الكتب المسيحية فلا تستحق الانتباه. آه ما أتعسنا إن المسيحيين منا قد نسوا لغتهم، وبين ألف شخص منهم لا يوجد واحد يحسن كتابة رسالة إلى صديقه باللغة اللاتينية، ولكن إذا طلبته للكتابة باللغة العربية أجاد كل الإجادة، بحيث إن الكثيرين من إخواننا في الدين يحسنون اللغة العربية أفضل من العرب أنفسهم".
(ولا تعليق على النص فلا نقول: إن التاريخ يعيد نفسه، وإنما انقلبت الصورة رأساً على عقب فصار بعضنا مع لغة الفرنجة يصنع ما صنعوا هم مع لغتنا!).
ومع مرور الزمن تطور مفهوم الاستعراب، وأصبح ذا طابع علمي يختص بدراسة حياة العرب وما يتعلق بهم من حضارة وآداب ولغة وتاريخ وفلسفات وأديان، وله أصوله وفروعه، ومدارسه وخصائصه وأتباعه ومنهجه وفلسفته وتاريخه وأهدافه، والمستعرب عالم ثقة في كل ما يتصل بالعرب، وهو من تبحر من غير العرب في اللغة العربية وآدابها وتثقف بثقافتها وعني بدارستها.
لقد أدى وأسدى الاستعراب الإسباني خدمات جليلة لا تقدر بثمن إلى الثقافة العربية والإسلامية والحضارة العربية الأندلسية بصفة خاصة. وذلك بفضل الاتصال الذي عرفته إسبانيا أيام الوجود العربي الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية لمدة ثمانية قرون، كانت فيها اللغة العربية لغة علم وحضارة، انطلاقاً من السلطان السياسي المستقل الذي مهد لهذا السلطان الحضاري الشامل الذي جعل من إسبانيا أمة أوربية ذات خصائص متميزة.
يقول المستعرب الإسباني: "بيدرو مارتينيث": إن إسبانيا ما كان لها أن تدخل التاريخ الحضاري لولا القرون الثمانية التي عاشتها في ظل الإسلام وحضارته، وكانت بذلك باعثة النور والثقافة إلى الأقطار الأوربية المجاورة المتخبطة آنذاك في ظلمة الجهل والأمية والتخلف".
على أننا بعد أن عرّبنا الأندلس لساناً وثقافة وهوية فقدنا الأندلس جنة الله في الأرض، وتغربنا في الأرض، أو ذبنا في الإسبان، وعاد قسم منا إلى الدين المسيحي أو هرب إلى المغرب العربي في جو من المجازر والدماء النازفة.
وكان أخطر أسباب فقدان العرب والمسلمين للأندلس أمور: أخطرها على الإطلاق عودة العرب إلى القبلية الجاهلية، والعصبية الضيقة، فمن يصدق أن الحروب كانت تنشب بين قيس ويمن، أو القيسية والمضرية، بحيث يستعين كل طرف على الآخر بالإسبان، إلى أن أهلكهم الإسبان جميعاً.
ومن أسباب فقدنا إياها: الترف والمجون الذي ضرب فينا ضربته فأفسد الذوق والتدين والخلق والعقل ونخر الحضارة، وإذا رأيت قصورهم عجبت للصنعة، وحزنت لسبب "الضيعة"، أي ضياع هذه الجنة من أيدينا.
ومن أسباب النكبة ضعف الحكام، وأبو عبد الله الصغير نموذج وقد ظل غارقاً في ملذاته إلى أن داهمته القوات الإسبانية، فغادر غرناطة وقصر الحمراء وجنة العريف، وهو يبكي فقالت له أمه الإسبانية:
ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
ولا نستقصي الأسباب. ونعود إلى "الاستعراب". قال الزبيدي في تاج العروس ج2 ص210 (وهو مرتب لا على المألوف، بل على أواخر الكلمات): "والاستعراب: الإفحاش في القول.. وفي الحديث أن رجلاً من المشركين كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل من المسلمين: والله لتكفن عن شتمه أو لأرحّلنّك بسيفي هذا، فلم يزدد إلا استعراباً، فحمل عليه فضربه، وتعاوى عليه المشركون فقتلوه".
قال المعجم الوسيط: "الأعراب من العرب: سكان البادية خاصة، يتتبعون مساقط الغيث ومنابت الكلأ. الواحد: أعرابي.
والإعراب: تغيير يلحق أواخر الكلمات العربية من رفع ونصب وجر وجزم، على ما هو مبين في قواعد النحو.
والتعريب: صبغ الكلمة بصبغة عربية عند تقلها بلفظها الأجنبي إلى اللغة العربية".
قلت: أما الأعراب سكان البادية الذين يتتبعون مساقط القطر فقد امتصتهم المدينة والوظائف الفارغة، وأفرغت البادية إلا من أقل القليل كما أفرغ الريف إلى حد بعيد، وإن إعادة تأهيله أصبحت تحتاج إلى الكثير حتى يجذب سكان المدن من الأصل البدوي أو الريفي بعد أن جذبهم إغراء المدينة وإغواء الزحام والضجيج والعيش في هامش مجتمع المدينة كعشوائيات القاهرة وسكان "القرافة" أي المقابر الذين يبلغون عدة ملايين!
وأما الإعراب، فبمجرد كسر الهمزة وفتحها ننتقل من معنى إلى معنى. فمن البادية، إلى ما يلحق آخر الكلمة من تغير رفعاً وخفضاً.. وإنما ابتدعه أو أبدعه علماء عباقرة ليضبطوا اللسان الذي غزته عجمة نتيجة دخول الشعوب والألسن في دين الله وفي اللغة العربية. أما ما العلاقة بين الأعراب والإعراب فتحتاج إلى إعراب..
كانت المدينة تربي وتصقل وتهذب، فأصبحت المدينة تجذب وتخرب وصارت البادية التي كانت عنوان القسوة والشدة تملك من الفضائل والشهامة ما لا تملك المدينة.
وهل أتاك نبأ الشاعر الذي قدم على الخليفة العباسي من البادية فمدحه بما تعلم، أي أنه كالتيس في نطاح الخطوب..، حتى همّ بعض جلسائه أن يبطشوا به، فأسكنه الخليفة في "فيلا" في بغداد، فلما تهذب طبعه قال:
عيون المها بين الرصافة والجسر قتلننا من حيث ندري ولا ندري
ونترك الذي تهذب بعد اخشيشان، لنختم بشيء من البيان:
في كتاب "قصص العرب" لجاد المولى والبجاوي وأبو الفضل إبراهيم رحمهم الله، جاءت هذه القصة ألخصها لكم: اشترى المنصور بن عامر جواهر من تاجر من عدن ودفع للجوهري صرة فيها دنانير من ذهب هي الثمن، وسار التاجر طريق الرملة على شط النهر في يوم قائظ، فدعته نفسه إلى التبرد، فخلع ثيابه ووضع الصرة ونزل النهر، فجاءت حدأة فاختطفت صرته، فاغتم كثيراً، وبلغ المنصور خبره، ووصف له المكان الذي كان فيه، فدعا المنصور شرطيه ليحضر مشيخة أهل الرملة فسألهم عمن غير حاله بعد إقلال دون تدريج، فقالوا فلان. فأحضره وحضر التاجر، فقال المنصور: سبب ضاع منا وسقط إليك، ما فعلت به؟ قال: ها هو ذا يا مولاي، لكني لفاقتي أخذت عشرة دنانير، فطار التاجر فرحاً، وقال: قد وهبت له الدنانير. فقال المنصور: نحن أولى بذلك منك. ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضاً، وللرجل بعشرة دنانير ثواباً.." هكذا كان العرب وهكذا كان حكامهم!
البدء بالأقربين، هو الأقرب إلى منهج الدين. وهكذا بدأ النبي الأمين. وهو سيد العالميين من دعاة رب العالمين، ومن الأنبياء والمرسلين. فلما استقرت دعوته في قومه صلى الله عليه وسلم، ودخل الناس (أي العرب كأنهم هم الناس) في دين الله أفواجاً، طفق بعد ذلك يخاطب العالم ويرسل الرسائل إلى الزعماء والملوك.
أبين هذا لأنه يدور في وهم بعض المتدينين أن التدين يناقض شعورك نحو أمتك وقومك وشعبك!
فقد وردت كلمة "قوم" في القرآن (206) مرات. وكلمة "يا قوم" (47) مرة. وكلمة "قوماً" (40) مرة. و"قومك" (11) مرة وباقي مشتقات قوم ومنها "قومه" (80) مرة أي ما مجموعه: 384 مرة.
فإلى القاموس بعد المعجم المفهرس لألفاظ القرآن.
الاستعراب:
قال في المعجم الوسيط: "واستعرب صار دخيلاً في العرب وجعل نفسه منهم."
قلت: إن أعداءنا المجرمين الصهاينة أعطوا كلمة الاستعراب والمستعربين مفهوماً سيئاً سلبياً منفراً. لأنهم يستخدمون هؤلاء المجرمين منهم، يستخدمونهم في مطاردة شبابنا، أو نشطاء الانتفاضة، أو كل مطلوب لهم. وهم في العادة كما هو معلوم من اليهود الشرقيين، أي اليهود من أصول عربية، وبعض الخونة من العرب.
ولكن "للاستعراب" مفهوماً آخر ليس يحمل الظلال السوداء التي حمّلها المجرمون لهذا المصطلح. وحرب اللغة بيننا وبينهم شديدة.
فهناك فريق من الدارسين الإسبان هم الذين يحبذون أن يتسموا بهذا الاسم.. ولا يحبذون الاسم الدارج المشتهر لأمثالهم من الدارسين، وهو اسم المستشرقين.
قال الأستاذ محمد عبد الرحمن القاضي في كتابه عن "ميغيل آسين بلاثيوس" ت1944 رائد الاستعراب الإسباني المعاصر، قال القاضي: "يرفض الكثير من الإسبان المهتمين بالدراسات العربية والإسلامية نعتهم بالمستشرقين. ويفضلون بدلها الاستعراب والمستعربين Arabistas نظراً لأنهم كلهم نذروا أنفسهم وحياتهم لدراسة اللغة العربية وآدابها وحضارة المسلمين وعلومهم في شبه الجزيرة الإيبيرية بصفة خاصة، دون أن يهتموا بلغات شرقية أخرى كالفارسية والتركية والأوردية وغيرها. ويلح المستعرب "بيدرو مارتينث" على استعمال كلمة "الاستعراب" Arabista لأن الدراسات التي بدأت في إسبانيا وازدهرت منذ وقت طويل كانت الدراسات العربية..
ومن هنا "يجب التمييز بين المستعربين والمستشرقين في إسبانيا، فالمستعربون هم الذين يهتمون بالدراسات العربية الإسلامية وبخاصة الأندلسية منها، والمستشرقون هم من يهتمون بقضايا الشرق على العموم وبخاصة قضايا الشرق الأقصى.
وإن نظرنا للتاريخ فإننا نجد أن الاستعراب استعمال قديم. استعمله "ابن القرية" وهو من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، وقد قال لما سأله الحجاج عن أهل البحرين: "نبط استعربوا" قال: فأهل عُمان؟ قال: "عرب استنبطوا".
أما في الأندلس فقد أطلقت كلمة المستعربة أو المستعربين على العناصر المسيحية التي استعربت في لغتها وعاداتها، ولكنها بقيت على دينها محتفظة ببعض تراثها اللغوي والحضاري، وقد حفظت لهم الدولة الإسلامية حرية العقيدة..
وينقل د.سيمون الحايك عن القس Alvaro حزنه على أحوال المسيحيين إبان الحكم الإسلامي فيقول: "إن الشباب المسيحي لا يجد اللذة والمتعة الروحية إلا في قراءة الكتب العربية وآدابها، فينفقون الأموال الطائلة على شراء هذه الكتب وينادون على رؤوس الأشهاد: أن لا آداب توازي الآداب العربية. أما الكتب المسيحية فلا تستحق الانتباه. آه ما أتعسنا إن المسيحيين منا قد نسوا لغتهم، وبين ألف شخص منهم لا يوجد واحد يحسن كتابة رسالة إلى صديقه باللغة اللاتينية، ولكن إذا طلبته للكتابة باللغة العربية أجاد كل الإجادة، بحيث إن الكثيرين من إخواننا في الدين يحسنون اللغة العربية أفضل من العرب أنفسهم".
(ولا تعليق على النص فلا نقول: إن التاريخ يعيد نفسه، وإنما انقلبت الصورة رأساً على عقب فصار بعضنا مع لغة الفرنجة يصنع ما صنعوا هم مع لغتنا!).
ومع مرور الزمن تطور مفهوم الاستعراب، وأصبح ذا طابع علمي يختص بدراسة حياة العرب وما يتعلق بهم من حضارة وآداب ولغة وتاريخ وفلسفات وأديان، وله أصوله وفروعه، ومدارسه وخصائصه وأتباعه ومنهجه وفلسفته وتاريخه وأهدافه، والمستعرب عالم ثقة في كل ما يتصل بالعرب، وهو من تبحر من غير العرب في اللغة العربية وآدابها وتثقف بثقافتها وعني بدارستها.
لقد أدى وأسدى الاستعراب الإسباني خدمات جليلة لا تقدر بثمن إلى الثقافة العربية والإسلامية والحضارة العربية الأندلسية بصفة خاصة. وذلك بفضل الاتصال الذي عرفته إسبانيا أيام الوجود العربي الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية لمدة ثمانية قرون، كانت فيها اللغة العربية لغة علم وحضارة، انطلاقاً من السلطان السياسي المستقل الذي مهد لهذا السلطان الحضاري الشامل الذي جعل من إسبانيا أمة أوربية ذات خصائص متميزة.
يقول المستعرب الإسباني: "بيدرو مارتينيث": إن إسبانيا ما كان لها أن تدخل التاريخ الحضاري لولا القرون الثمانية التي عاشتها في ظل الإسلام وحضارته، وكانت بذلك باعثة النور والثقافة إلى الأقطار الأوربية المجاورة المتخبطة آنذاك في ظلمة الجهل والأمية والتخلف".
على أننا بعد أن عرّبنا الأندلس لساناً وثقافة وهوية فقدنا الأندلس جنة الله في الأرض، وتغربنا في الأرض، أو ذبنا في الإسبان، وعاد قسم منا إلى الدين المسيحي أو هرب إلى المغرب العربي في جو من المجازر والدماء النازفة.
وكان أخطر أسباب فقدان العرب والمسلمين للأندلس أمور: أخطرها على الإطلاق عودة العرب إلى القبلية الجاهلية، والعصبية الضيقة، فمن يصدق أن الحروب كانت تنشب بين قيس ويمن، أو القيسية والمضرية، بحيث يستعين كل طرف على الآخر بالإسبان، إلى أن أهلكهم الإسبان جميعاً.
ومن أسباب فقدنا إياها: الترف والمجون الذي ضرب فينا ضربته فأفسد الذوق والتدين والخلق والعقل ونخر الحضارة، وإذا رأيت قصورهم عجبت للصنعة، وحزنت لسبب "الضيعة"، أي ضياع هذه الجنة من أيدينا.
ومن أسباب النكبة ضعف الحكام، وأبو عبد الله الصغير نموذج وقد ظل غارقاً في ملذاته إلى أن داهمته القوات الإسبانية، فغادر غرناطة وقصر الحمراء وجنة العريف، وهو يبكي فقالت له أمه الإسبانية:
ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
ولا نستقصي الأسباب. ونعود إلى "الاستعراب". قال الزبيدي في تاج العروس ج2 ص210 (وهو مرتب لا على المألوف، بل على أواخر الكلمات): "والاستعراب: الإفحاش في القول.. وفي الحديث أن رجلاً من المشركين كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل من المسلمين: والله لتكفن عن شتمه أو لأرحّلنّك بسيفي هذا، فلم يزدد إلا استعراباً، فحمل عليه فضربه، وتعاوى عليه المشركون فقتلوه".
قال المعجم الوسيط: "الأعراب من العرب: سكان البادية خاصة، يتتبعون مساقط الغيث ومنابت الكلأ. الواحد: أعرابي.
والإعراب: تغيير يلحق أواخر الكلمات العربية من رفع ونصب وجر وجزم، على ما هو مبين في قواعد النحو.
والتعريب: صبغ الكلمة بصبغة عربية عند تقلها بلفظها الأجنبي إلى اللغة العربية".
قلت: أما الأعراب سكان البادية الذين يتتبعون مساقط القطر فقد امتصتهم المدينة والوظائف الفارغة، وأفرغت البادية إلا من أقل القليل كما أفرغ الريف إلى حد بعيد، وإن إعادة تأهيله أصبحت تحتاج إلى الكثير حتى يجذب سكان المدن من الأصل البدوي أو الريفي بعد أن جذبهم إغراء المدينة وإغواء الزحام والضجيج والعيش في هامش مجتمع المدينة كعشوائيات القاهرة وسكان "القرافة" أي المقابر الذين يبلغون عدة ملايين!
وأما الإعراب، فبمجرد كسر الهمزة وفتحها ننتقل من معنى إلى معنى. فمن البادية، إلى ما يلحق آخر الكلمة من تغير رفعاً وخفضاً.. وإنما ابتدعه أو أبدعه علماء عباقرة ليضبطوا اللسان الذي غزته عجمة نتيجة دخول الشعوب والألسن في دين الله وفي اللغة العربية. أما ما العلاقة بين الأعراب والإعراب فتحتاج إلى إعراب..
كانت المدينة تربي وتصقل وتهذب، فأصبحت المدينة تجذب وتخرب وصارت البادية التي كانت عنوان القسوة والشدة تملك من الفضائل والشهامة ما لا تملك المدينة.
وهل أتاك نبأ الشاعر الذي قدم على الخليفة العباسي من البادية فمدحه بما تعلم، أي أنه كالتيس في نطاح الخطوب..، حتى همّ بعض جلسائه أن يبطشوا به، فأسكنه الخليفة في "فيلا" في بغداد، فلما تهذب طبعه قال:
عيون المها بين الرصافة والجسر قتلننا من حيث ندري ولا ندري
ونترك الذي تهذب بعد اخشيشان، لنختم بشيء من البيان:
في كتاب "قصص العرب" لجاد المولى والبجاوي وأبو الفضل إبراهيم رحمهم الله، جاءت هذه القصة ألخصها لكم: اشترى المنصور بن عامر جواهر من تاجر من عدن ودفع للجوهري صرة فيها دنانير من ذهب هي الثمن، وسار التاجر طريق الرملة على شط النهر في يوم قائظ، فدعته نفسه إلى التبرد، فخلع ثيابه ووضع الصرة ونزل النهر، فجاءت حدأة فاختطفت صرته، فاغتم كثيراً، وبلغ المنصور خبره، ووصف له المكان الذي كان فيه، فدعا المنصور شرطيه ليحضر مشيخة أهل الرملة فسألهم عمن غير حاله بعد إقلال دون تدريج، فقالوا فلان. فأحضره وحضر التاجر، فقال المنصور: سبب ضاع منا وسقط إليك، ما فعلت به؟ قال: ها هو ذا يا مولاي، لكني لفاقتي أخذت عشرة دنانير، فطار التاجر فرحاً، وقال: قد وهبت له الدنانير. فقال المنصور: نحن أولى بذلك منك. ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضاً، وللرجل بعشرة دنانير ثواباً.." هكذا كان العرب وهكذا كان حكامهم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق